سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


قرأ الجمهور {إلا} على الاستثناء، وقرأ ابن عباس {ألا} بفتح الهمزة وتخفيف اللام، واختلف المفسرون في المراد بهذه الآية، فقال ابن زيد: معناها {لا تجادلوا} من آمن بمحمد من {أهل الكتاب} فكأنه قال: {أهل الكتاب} المؤمنين {إلا بالتي هي أحسن} أي الموافقة فيا حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك، وقوله تعالى على هذا التأويل {إلا الذين ظلموا} يريد به من بقي على كفره منهم، كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم، والآية على هذا محكمة غير منسوخة، وقال مجاهد: المراد ب {أهل الكتاب} اليهود والنصارى الباقون على دينهم أمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم {إلا بالتي هي أحسن} من الدعاء إلى الله تعالى والتنبيه على آياته، وأن يزال معهم عن طريق الإغلاظ والمخاشنة، وقوله على هذا التأويل {إلا الذين ظلموا} معناه ظلموكم وإلا فكلهم ظلمة على الإطلاق يراد بهم من لم يؤد جزية الحرب، ومن قال وصرح بأن لله ولداً أو له شريك أو يده مغلولة، فالآية على هذا منسوخة في مهادنة من لم يحارب، قال قتادة هي منسوخة بقول الله تعالى {قاتلوا الذي لا يؤمنون بالله} [التوبة: 29].
قال الفقيه الإمام القاضي: والذي يتوجه في معنى الآية إنما يتضح مع معرفة الحال في وقت نزول الآية، وذلك أن السورة مكية من بعد الآيات العشر الأول، ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك، وكانت اليهود بمكة وفيما جاورها فربما وقع بينهم وبين بعض المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين وتكذيب، فأمر الله تعالى المؤمنين ألا يجادلوهم بالمحاجة إلا بالحسنى دعاء إلى الله تعالى وملاينة، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين إما بفعل، وإما بقول، وإما بإذاية محمد صلى الله عليه وسلم، وإما بإعلان كفر فاحش كقول بعضهم عزير ابن الله ونحو هذا، فإن هذه الصنيفة استثني لأهل الإسلام مقارضتها بالتغيير عليها والخروج معها عن التي هي أحسن، ثم نسخ هذا بعد بآية القتال والجزية وهذا قول قتادة وقوله تعالى: {وقولوا آمنا} الآية، قال أبو هريرة كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية فيفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}» وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل».


تقدم في الآية التي قبل هذه ما يتضمن نزول شرع وكتاب من عندالله على أنبياء قبل محمد عليه السلام فحسن لذلك عطف {كذلك أنزلنا} على ما في المضمر، أي وكما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا إليك، و{الكتاب} القرآن، وقوله {فالذين آتيناهم الكتاب} يريد التوراة والإنجيل، أي فالذين كانوا في عصر نزول الكتاب وأوتوه حينئذ {يؤمنون به} أي كانوا مصدقين بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك، فالضمير في {به} عائد على القرآن، ثم أخبر عن معاصري محمد صلى الله عليه وسلم أن منهم أيضاً {من يؤمن به} ولم يكونوا آمنوا بعد، ففي هذا إخبار بغيب بينه الوجود بعد ذلك، ثم أنحى على الجاحدين من أمة قد آمن سلفها في القديم وبعضها في الحديث، وحصل الجاحدون في أخس رتبة من الضلال، ويشبه أن يراد أيضاً في هذا الإنحاء كفار قريش مع كفار بني إسرائيل، ثم بين تعالى الحجة على المبطلين المرتابين ما وضح أن مما يقوي نزول هذا القرآن من عند الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء به في غاية الإعجاز والطول والتضمن للغيوب وغير ذلك وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتلو كتاباً ولا يخط حرفاً ولا سبيل له إلى العلم، فإنه لو كان ممن يقرأ {لارتاب المبطلون} وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده، وقال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً لا يخط ولا يقرأ كتاباً فنزلت هذه الآية، وذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وأسند أيضاً حديثاً إلى أبي كبشة السلولي مضمنه أنه عليه السلام قرأ صحيفة لعيينة بن حصن وأخبر بمعناها.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه، وقوله تعالى: {بل هو آيات بينات} إضراب عن مقدر من الكلام يقتضيه ما تقدم كأنه قال: ليس الأمر كما حبسوا {بل هو} وهذا الضمير يحتمل أن يعود على القرآن، ويؤيده أن في قراءة ابن مسعود {بل هي آيات}، ويحتمل أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيده أن قتادة قرأ {بل هو آية بينة} على الإفراد، وقال: المراد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يعود على أمر محمد صلى الله عليه وسلم في أنه لم يتل ولا خط، وبكل احتمال قالت فرقة، وكون هذا كله {آيات} أي علامات {في صدور} العلماء من المؤمنين بمحمد، يراد به مع النظر والاعتبار. و{الظالمون} و{المبطلون}، قيل يعم لفظهما كل مكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن عظم الإشارة بهما إلى قريش لأنهم الأهم، قاله مجاهد، وقال قتادة: {المبطلون} اليهود.


الضمير في {قالوا} لقريش ولبعض اليهود، لأنهم كانوا يعلمون قريشاً مثل هذه الحجة يقولون: لم لا يأتيكم بمثل ما جاء به موسى من العصا وغيرها، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وعلى بن نضر عن أبي عمرو {آية من ربه}، وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم {آيات من ربه}، فأمر تعالى نبيه أن يعلم أن هذا الأمر بيد الله عز وجل ولا يستنزله الاقتراح ولا التمني وأنه بعث نذيراً ولم يؤمر بغير ذلك، وفي مصحف أبي بن كعب {قالوا لو ما يأتينا بآيات من ربه قل إنما الآيات}، ثم احتج عليهم في طلبهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات ومعجز للجن والإنس فقال: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب}، ثم قرر ما فيه من الرحمة والذكرى للمؤمنين، فقوله {أو لم يكفهم}، جواب لمن قال: {لولا أنزل}، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المؤمنين كتبوا عن اليهود بطائق أخبروهم بشيء من التوراة فكتبوه، فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «كفى بها ضلالة قوم أن رغبوا عما آتاهم به نبيهم إلى ما أتى به غيره»، ونزلت الآية بسببه.
قال الفقيه الإمام القاضي: والتأويل الأول أجرى مع نسق الآيات، ثم أمر تعالى نبيه بالإسناد إلى أمر الله تعالى وأن يجعله حسبه {شهيداً} وحاكماً بينه وبينهم بعلمه وتحصيله جميع أمورهم، وقوله {بالباطل}، يريد بالأصنام والأوثان وما يتبع أمرها من المعتقدات، والباطل، هو أن يفعل فعل يراد به أمر ما، وذلك ألأمر لا يكون عن ذلك الفعل، والأصنام أريد بأمرها الأكمل والأنجح في زعم عبادها وليس الأكمل والأنجح إلا رفضها فهي إذاً باطل، وباقي الآية بين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8